اخبار مميزةمقالات

الصحة في زمن الأوبئة

كتب/ د. علي أبو قرين – عضو اللجنة الفنية الاستشارية لمجلس وزراء الصحة العرب

للعام الثاني على التوالي والعالم يعيش كابوس انتشار وباء الكورونا المستجد والمتجدد لقدرته العالية على التحور والانتشار وما يسببه من أضرار فادحة على صحة البشر وحياتهم والانعكاسات السلبية الاقتصادية والاجتماعية على الشعوب، ومن واقع التجربة المريرة التي يمر بها العالم اتضح أن الأنظمة الصحية في معظمها ضعيفة وهشة وغير قادرة على التعامل مع الأزمات والتهديدات الصحية، التي تشكل الأوبئة جزء من المخاطر الحياتية التي يتعرض لها البشر، وخصوصا مع التغيرات السلبية في المناخ، والأوضاع البيئية المتردية، والتغيرات السلبية في السلوكيات الغذائية والحياتية بما يضر الصحة العامة للإنسان.

وللأسف ما زاد من تأزم الكارثة هو التباين في مجابهة الوباء بين دول العالم، بين المتقدمة والنامية، والغنية والفقيرة. مع الغياب التام لأي صورة من صور التعاون المشترك لمجابهة الجوائح، وتأثيراتها الصحية والاجتماعية والاقتصادية، والأنانية المفرطة في حجب المعلومات الصحيحة، والقصور في التعاون المشترك في تبادل المعلومات الطبية والعلمية، والانفراد بالنصيب الأكبر من اللقاحات والأجهزة الطبية اللازمة، والمستلزمات المطلوبة لمكافحة الأوبئة ومنها الأدوات المعملية المطلوبة للفحوص والاختبارات الخاصة بالفيروسات، وأدوات الحماية والأكسجين والتجهيزات الطبية واللوجستية الخاصة بالمستشفيات الميدانية والمتنقلة، والأدوية المضادة للفيروسات والأدوية المعالجة للأعراض الناجمة من العدوى وأدوية الأمراض المزمنة.

مع العلم أن الأوبئة عابرة للحدود مما يستوجب التعاون والتنسيق العالمي من أجل المشاركة الفعالة في الموارد والخبرات، وتطوير وسائل التشخيص الحديثة، وبروتوكولات العلاج، والاستجابة السريعة والعادلة في توفير اللقاحات. ولهذا صار لزاما على كل الدول أن تعيد النظر في هيكلية النظم الصحية الوطنية بما يضمن تأهيلها لمجابهة التحديات المحلية والإقليمية والدولية في مكافحة الأوبئة والأمراض السارية التي يعاني منها العالم الآن وقد يستمر إذا لم يتم القضاء على الأوبئة كليا أو انحصارها على الأقل؛ مع استمرار التداعيات الصحية والاجتماعية والاقتصادية ما بعد الجوائح لسنوات قادمة.

ولهذا على الحكومات الوطنية سرعة اتخاد التدابير والإجراءات اللازمة والمطلوبة لإعادة هيكلة النظم الصحية الوطنية بما يمكنها من مجابهة ومكافحة الأوبئة والأمراض السارية وما يترتب عليها من مخاطر اجتماعية واقتصادية وهذا يتطلب وضع القطاع الصحي في أولى اهتمامات القيادات السياسية وتسخير كل الإمكانيات اللازمة للقطاع الصحي ودمج كل السياسات الصحية في جميع سياسات القطاعات الحكومية، وتوجيه الكوادر البشرية للتعلم، والتدريب والتأهيل على التعامل مع الأمراض السارية والجوائح ومكافحتها بالطرق والأساليب العلمية الناجعة مرتكزة على التجارب والخبرات الإنسانية السابقة والدراسات الطبية والصحية المتقدمة، والأدلة والبراهين العلمية وأحدث البرامج والاستراتيجيات والخطط في إدارة الأزمات الصحية وما يترتب عنها من أزمات اجتماعية واقتصادية.

لابد من إعادة بناء نظام صحي قوي متكامل ومتماسك بدءًا من برامج تعزيز الصحة المنوطة بها كل القطاعات الحكومية والشراكة المجتمعية لتنفيذ كل المحددات الاجتماعية للصحة من توفر السكن الصحي اللائق والغذاء الصحي والمياه الصالحة للشرب وشبكات الصرف الصحي ومعالجة المخلفات والحفاظ علي البيئة والرقابة المشددة على السلع الغذائية والاستهلاكية والزراعية وكل ما يؤثر على صحة البيئة والبشر وأن تمارس الإرادة السياسية وضع القوانين والسياسات، والخطط والبرامج التي تضمن أفضل الظروف التي ينشأ ويعيش فيها الناس، وتحقق أهم العوامل المحددة للصحة الجيدة التي تسمح للمواطنين بأن يعيشوا حياة كريمة صحية منتجة اجتماعيًا واقتصاديا.

ويتشابك ويتماسك مع تعزيز الصحة منظومة الرعاية الصحية الأولية التي تعتبر المدخل الأساسي للنظام الصحي الوطني والعالمي الذي يعكس مستوى الصحة العامة للمجتمعات وهي خط الدفاع الأول في مكافحة الأوبئة والأمراض السارية.

ولأهمية الرعاية الصحية الأولية تنادى العالم أجمع بكل هيئاته ومنظماته الحكومية وغير الحكومية في اجتماع (ألما آتا) الذي دعا له اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية (الاتحاد السوفيتي) ذلك الوقت في سبتمبر من العام 1978، وأعلن وثيقة الرعاية الصحية الأولية وأهميتها للنظام الصحي العالمي والذي أعلن فيها أن الصحة «حق أساسي من حقوق الانسان»، وهدف اجتماعي عالي النطاق.

ودعا هذا الاجتماع في حينه، الحكومات أن تضع سياسات واستراتيجيات، وخطط عمل وطنية للبدء في الرعاية الصحية الأولية والاستمرار فيها كجزء من النظام الصحي الوطني الشامل، وبالتنسيق مع جميع القطاعات الأخرى المعنية ومن أجل هذا لزاما أن تمارس الإرادة السياسية لتعبئة موارد البلدان، ولاستعمال الموارد الخارجية المتاحة بطريقة رشيدة، وضرورة القيام بعمل دولي فعال بالإضافة للأعمال الوطنية من أجل تنمية وتحقيق الرعاية الصحية الأولية في العالم كله وخصوصا في البلدان النامية بضرورة تعزيز برامج وطنية شاملة للوقاية من الامراض المعدية، وتوفير الموارد المطلوبة مع تقييم مستمر للبرامج الوطنية للوقاية من الأوبئة والأمراض المعدية ومكافحتها، وتطوير السياسات، وبناء القدرات ووضع الاستراتيجيات المناسبة لحماية مقدمي الخدمات الصحية وتمنيعهم، وتطوير تقنيات الترصد للأوبئة والأمراض المعدية وضرورة اعتماد وتطوير برامج مكافحة العدوى في كل مرافق تقديم الخدمات الطبية والعلاجية بكل مستوياتها لضمان تقديم الخدمات في مرافق صحية آمنة.

فضلا عن الحرص على تطبيق نظم الجودة واعتماد المؤسسات الصحية بما يتوافق مع المعايير المعتمدة محليا أو دوليا بما يضمن نظام صحي قوي متماسك له من المرونة ليكون قادرا على التكيف والاستعداد للأزمات والطوارئ الصحية، والاستجابة السريعة بفاعلية وكفاءة وأمان، مع الاستمرار في تقديم الخدمات الصحية والطبية المنوط بها مستويات النظام الصحي العلاجية دون تأثير أو تأخير لتخفيف عبء المرض، ومع ضرورة تعزيز المقاومة الاستباقية برفع كفاءة الجهاز المناعي للمجتمع خصوصًا لأصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن والفئات الأكثر عرضة لمخاطر العدوى بوضع سياسات التوعية والتثقيف الصحي السكاني والتشجيع على العادات الغذائية الصحية السليمة وممارسة الرياضة واعتماد سجلات طبية مرقمنة لتتبع تطور الوضع الصحي عبر الفترات العمرية المختلفة ومراقبتها صحيا ونفسياً.

مع تطوير أنظمة الإنذار المبكر الصحية التي تعتمد على تجميع البيانات والمعلومات حول الأمراض الوبائية والفيروسات وإتاحتها في الوقت المناسب للتدخلات الصحية العاجلة باستخدام الأساليب الإحصائية العلمية للكشف عن التغييرات في اتجاهات انتشار الأمراض والأوبئة وتمر عملية الإنذار المبكر للأوبئة بدورة الرصد، والاستجابة وتصحيح المسار، والمرونة والارتداد للوضع الطبيعي بعد انحسار الوباء.

وهذا يتطلب توفير الإمكانيات اللازمة والتمويل الكافي الذي يغطي القطاع الوقائي، والتدريب، وتعزيز جهود البحث العلمي بما يعزز من القدرة على المتابعة المستمرة لتطور الفيروسات، وتحورها، ومدى استجابتها ومقاومتها للقاحات وهذا يتطلب نشر المعلومات والبيانات السريرية، وتحليلها لتتبع الوباء وكيفية انتشاره، ودراسة إجراءات التدخل اللازمة لإبطاء الانتشار، وتطوير الاختبارات التشخيصية والبروتوكولات العلاجية، وتحديد تدابير الصحة العامة واعتماد الإجراءات الاحترازية للسيطرة على انتشار الوباء، ومنها حصار البؤر الوبائية والقضاء عليها في مهدها.

ولتحقيق العدالة في توزيع الخدمات الطبية، وتعزيز دور الدولة في توفير الخدمات الصحية بالأبعاد المحققة للنظام الصحي الفعال والتي تتطلب سرعة الاكتشاف المبكر للحالات المصابة، وإيجاد الآليات العادلة والمرنة للتعامل مع حالات الاشتباه وسهولة تحديد بؤر الانتشار، والاستجابة السريعة في إتاحة الخدمات الطبية مما يعزز القدرة على مجابهة الفيروس.

ولتأهيل النظم الصحية لمكافحة الأوبئة والامراض المعدية مع الاستمرار في تقديم الخدمات الصحية والطبية المعتادة يتطلب..

– تدبير الموارد المالية المطلوبة.

– زيادة السعة السريرية في المؤسسات العلاجية وزيادة أسرة العناية الفائقة، والمستشفيات الميدانية والمتنقلة وخدمات الرعاية المنزلية.

– التوسع في الفحوصات والاختبارات المعملية، وتوفير اللقاحات اللازمة، واعتماد برامج التمنيع المجتمعي، وتوجيه الأعداد الكافية من القوى العاملة الصحية، ووضع برامج التدريب والتأهيل المستمر.

– العمل الجاد في ضرورة توطين صناعة الأدوية واللقاحات وتطوير تكنولوجية الأبحاث الفيروسية والاكتفاء الذاتي من المستلزمات الطبية بما في ذلك أدوات الحماية للقطاع الصحي والجمهور.

– ضرورة الانفتاح على تجارب العالم ونقل الخبرات الناجحة وتوحيد الجهود مع كل دول العالم، وإتاحة المعلومات الموثوقة والصحيحة للعامة عن طريق منصات إلكترونية وإعلامية مؤمنة وسهلة الوصول إليها تقنيا ولغويا ومتاحة طول الوقت.

– تكثيف كل الجهود الحكومية والمجتمعية لنشر الوعي والتثقيف الصحي.

إن الرعاية الصحية الأولية يجب أن تكون متاحة لكل المجتمع وفي متناول الجميع وتصل للجميع بسهولة ويسر وسريعة وآمنة وبقدرة وكفاءة وجودة عالية، فالرعاية الصحية الأولية؛ هي الدرع الواقي لحماية المجتمعات والعالم من مخاطر الأوبئة وآثارها السلبية الاجتماعية والاقتصادية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى