د. يوسف الصواني يكتب: الأزمةُ الليبيّةُ والحاجةُ إلى يقظةٍ وطنيّةٍ للعمل من أجل المصالحة والوحدة

رغمَ الآمالِ التي ولدتها النسخةُ الليبيّةُ من الربيع العربيّ، في أنّ هذا البلدَ القليلَ السكان الغني بالموارد سينتقل بكلّ سلاسةٍ ويسرٍ نحو واحة الديمقراطيّة الموعودة، فقد انتقلت البلادُ فعليًّا من الاستقرار والوحدة، في الخضوع لسلطةٍ مركزيّةٍ واحدةٍ إلى عدم الاستقرار والانقسام وحلقاتٍ متتاليّةٍ من الحرب الأهليّة والانقسام، وعدم الثقة بين الأطراف يؤجّجها التدخّلُ الأجنبي المتصاعد، رغم وجود وقف إطلاق نارٍ هشٍّ، وتنصيبِ حكومةِ وحدةٍ وطنيّةٍ نتيجةً لحواراتٍ رعتها الأممُ المتّحدة.
من المؤكّد أنّ ما جرى في 2011، مترافقًا بالدعم الخارجي، وتواصل تأثيراته السلبيّة؛ أحدث انقسامًا واستقطابًا مجتمعيًّا؛ خاصّةً عندما يتّصل الأمرُ بتلك الشرائح الكبيرة من المجتمع، التي تمّ استبعادُها في فترة ما بعد عام 2011، بذريعةِ مزاعمَ أنّها مواليّةٌ للنظام السابق، وهو ما استعمل مبرّرًا لما جرى ارتكابُهُ من فظائعَ بحقِّها تحتَ شعار 17 فبراير؛ خصمًا من رصيد الوطن والهُويّة والوحدة الوطنيّة، إضافةً إلى الخسارة الاقتصاديّة، نتيجةَ الهدر والفساد غيرِ المسبوق في إدارة الموارد الوطنيّة. هكذا، فإنّ نظرةً سريعةً تكشف لنا أنّ ليبيا تعاني اليوم العديدَ من الأزمات المتّصلة، وتواجه تحدّياتٍ كبيرة، ضمنَ ركودٍ اقتصاديٍّ وصعوباتٍ ماليّةٍ بالغة، كما يتّضح من النقص في إمدادات الطاقة والوقود والسيولة النقديّة، وقد تفاقمت هذه المشاكلُ بسبب الانتشار الكبير لجائحة كورونا بين السكان، في حين يعجز القطاعُ الصحيُّ عن المواجهة.
مع ذلك، ولأجلّ الحقيقة، فإنّ كلَّ مكوّنات هذه الصورة القاتمة لا يمكن عزوها فقط لتداعيات الانتفاضة ضدّ نظام القذافي، والتدخّل العسكريّ الأجنبي فقط، ولكن أيضًا بحقيقة أن بُنى الدولة وهياكلها التي استخدمها القذّافي في الممارسات الاستبداديّة والقمعيّة، كانت جزءًا أساسيًّا من الصراع. كما لا ينبغي أن نتجاهلَ أن حكومة الوحدة الوطنيّة منذ وجودها في ربيع العام الجاري؛ عملت على حلحلة الكثير من المشاكل بشكلٍ أنعشَ الأوضاعَ إيجابيًّا، لذلك، لا يمكن فهمُ ما يجري في هذا البد المكلوم، ما لم يتمَّ إدراكُ الدور والأثر الذي يؤدّيه تفاعلُ مجموعةٍ مركّبةٍ من العوامل. فبقدر ما كان الوضعُ الفوضويُّ الذي ساد منذ الانتفاضة نتيجةً مباشرة لها وارتداداتها، فهو أيضًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالماضي القريب الذي يتضمّن إرث نظام القذافي؛ المتمثّل في انتهاكات حقوق الإنسان عبرَ أربعة عقود، علاوةً على الانتهاكات والفظائع التي جرى ارتكابُها منذ الانتفاضة، وهذا يعني أنّ البلادَ بحاجةٍ للتعامل مع هذا الإرث وما تلاه من ممارسات، ومواجهتها لتجنّب الانحدار أكثرَ نحو المزيد من الفوضى والصراع الذي يتأجّج، نتيجةَ الاختراق المتواصل للحدود وانتشار الأسلحة، وحرص قوى الإسلام السياسي على تصدّر المشهد والاستحواذ على مؤسّسات الدولة واستبعاد الآخرين، بحججٍ متنوّعة، وهو ما ولّد ردةَ فعلٍ من قوًى أخرى مدنيّةٍ وعسكريّة؛ فصارت البلادُ رهينةَ صراعٍ على السلطة تحت مظلّة الحلفاء من العالم الخارجي.
حواراتٌ ومحادثاتٌ ومؤتمراتٌ واتفاقيّاتٌ دوليّة.. لكن لا حلَّ في الأفق سعت الأممُ المتّحدةُ وعددٌ من الدول والمنظّمات للتوصّل إلى حلٍّ للأزمة، من خلال عقد الحوارات بين أطراف الصراع الليبي، كما عقدت مؤتمراتِ قمّةٍ واجتماعاتٍ رفيعةِ المستوى، إضافةً إلى مفاوضاتٍ ومؤتمراتٍ متعدّدةِ الأطراف. تنقّل الممثّلون الليبيون بين طرابلس وتونس والرباط والجزائر والقاهرة ودبي وجنيف وروما وفاليتا وداكار وموسكو وبروكسل وأديس أبابا وباريس ومسقط وبرلين، وعددٍ آخرَ من العواصم والمدن في دولٍ متعدّدة، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية؛ انخرط الفاعلون الليبيّون في حواراتٍ ومحادثاتٍ للتفاوض على تسويةٍ سياسيّةٍ للأزمة، وفي بعض الأحيان للتوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار أو هدنة، لكن ذلك لم يُلحق تغييرًا ذا بالٍ على الوضع، فعلى الرغم من بعض النتائج تستمرّ الأزمةُ بلا هوادة، ولا تلوح في الأفق تسويةٌ نهائيّةٌ شاملةٌ مستدامة. ورغم النجاح النسبي الذي حقّقه ملتقى الحوار السياسي الليبي – برعاية الأمم المتّحدة – في إيجاد سلطةٍ مؤقّتةٍ جديدةٍ مكوّنةٍ من مجلسٍ رئاسيٍّ ثلاثيّ العضويّة، وحكومةٍ مؤقّتةٍ للوحدة الوطنيّة؛ باشرت عملها بعد أن أعطاها البرلمانُ الثقةَ واعترف بها الفاعلون سلطةَ وحدة، فإنّ أخطر التحدّيات لم تلقَ حتى الآن معالجةً مناسبة.
قامت حكومةُ الوحدة الوطنيّة، والمجلسُ الرئاسيُّ ببعض الخطوات على مستوى المصالحة الوطنيّة، لكن تلك الخطواتُ لم تتجاوز الشكليّاتُ وتبقى محدودةَ الأثر، ويبرز الوضعُ الصعبُ في أن الحكومةَ لم تتمكّن بعدُ من بسط نفوذها على كامل التراب الليبي، الذي تقع مناطقُ منه تحت سيطرة قوّاتٍ أجنبيّةٍ ومرتزقة، كما فشل المجلسُ الرئاسيُّ في القيام بدوره المحدّد في خارطة الطريق، كقائدٍ أعلى لكلّ القوى المسلّحة، في حين تستمرّ الميليشياتُ في الهيمنة على الغرب الليبي، ويخضعُ شرقُ البلاد وجنوبُها لسيطرة قوّاتِ ما يعرف “بالجيش الوطني الليبي”، الذي يقوده الجنرالُ خليفةُ حفتر الذي عيّنه البرلمانُ قائدًا عامًّا.
هل الانتخاباتُ هي الحلّ؟
رغم ما يتمّ تداولُهُ هذه الأيام عن الانتخابات المأمولة في ديسمبر القادم، وأن ما يعرقلها هو عدم وجود قاعدةٍ دستوريّةٍ أو تشريعٍ أو قانونٍ انتخابي؛ فإنّ جوهرَ العوائق سياسيٌّ بالدرجة الأولى، ويرتبطُ بالصراع الدائر بمشاركةٍ خارجيّةٍ منذ 2011، وأنّ ما قام به المجتمعُ الدوليّ عمومًا وهيئةُ الأمم المتّحدة خصوصًا؛ لم ينجح سوى في تجنّب معالجة العقدة الحقيقيّة للصراع مع إصرارٍ غريب، لا يمكن سوى التشكيك في النيّات التي تقف وراءه، على حصر المسألة في إبرام الصفقات ولكن، بإجراءاتٍ بائسةٍ لتقاسم السلطة بشكلٍ يديم الصراع والهدر للموارد الماديّة والمعنويّة؛ خصمًا من أرصدة كيان الدولة والمجتمع الليبي معًا. ما تكشف عنه التحرّكاتُ والتصريحاتُ والقراراتُ التي صدرت عن رئاسة البرلمان ورئاسة المجلس الأعلى للدولة أن الانتخاباتِ المؤمّلَ عقدُها؛ وَفْقًا لخارطة الطريق في ديسمبر المقبل، ليست سوى هدفٍ بعيدِ المنال، وهو ما يهدّد بالعودة إلى مربع الانقسام والصراع. كل ذلك يؤكّد في الواقع فشلَ المقاربة التي تتبنّاها الأممُ المتّحدةُ للأزمة الليبيّة، وما تنتجه من حلولٍ لم تتجاوز عمليّاتٍ مشبوهةٍ لتقاسم السلطة تظلّ غيرَ مقبولةٍ من قطاعاتٍ وفاعلين مختلفين في أنحاءٍ متعدّدةٍ من البلاد.
مؤتمرُ سلامٍ ومصالحةٍ وطنيّةٍ شاملة إنّ جوهرَ الفشل يعود في الواقع إلى هذا التوجّه السياسي، كما يعود إلى الإصرار على إجراء انتخابات، في ظلّ غياب أيّ اتفاقٍ على القيم والمبادئ الأساسيّة بين الليبيين بمختلِف توجّهاتهم؛ لم تؤدِ الانتخاباتُ التي جرت في ليبيا لانتخابِ البرلمان أو هيئة صياغة مُسَوَّدَةِ الدستور، سوى إلى المزيد من الانقسام والصراع والتدخّل الخارجي، كما أدّت عمليّةُ صياغةِ الدستور في ظلّ الصراع إلى المزيد من التناقضات والصراعات، وبدل أن يقود مشروعُ الدستور لحلّ الأزمة، كما تقتضي مقاربةُ الأمم المتحدة، أصبحت المُسَوَّدَةُ التي أصدرها عددٌ كبيرٌ من أعضاء الهيئة في يوليو2017، هي ذاتُها مادّةٌ للصراع والانقسام.
النتيجةُ الظاهرةُ والملموسةُ هي أنّ مقاربةَ الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي، بما في ذلك مؤتمرُ برلين؛ لم تنتج ما يحقّق إجماعًا أو توافقًا لليبيين؛ يحوّل بين استمرار الأزمة، ويمنع العودة لمربع الصراع، هكذا أصبحت ترتيباتُ تقاسمِ السلطة مدخلًا لمزيدٍ من الصراع، وهدر الموارد والفساد، بل صارت اليوم مهددًا للوحدةِ الوطنيّةِ والسيادة وسلامة الكيان وحرمة الحدود. ولعلّ التجرِبَةَ الليبيّةَ تضيفُ تأكيدًا جديدًا على فشل مقاربات حلّ الصراع التي تنتهجها الأممُ المتّحدة؛ لتؤكدَ ما يقرّره الكثيرون من دارسي الصراعات وبناء الدولة؛ أنّ الانتخاباتِ وكتابةَ الدستور في ظروفٍ مشابهةٍ لما تمرّ به ليبيا، ليست سوى عاملًا لاستدامة الصراع.
إنّ تجرِبةَ عقدٍ من الزمن كفيلةٌ بأن تثبت أن ترتيباتِ تقاسم السلطة، وما يسمى بديمقراطيّة التوافق والإصرار عليها؛ لن تؤدّي إلا إلى المزيد من الصراع واستمرار الأزمة، وتهديد كلّ ما يربط الليبيين ويجمعهم، وتجد فيه القوى الخارجيّة دولًا أو فاعلين ما دون مستوى الدولة؛ مجالًا خصبًا لتحقيق مستهدفاتها. فالدرسُ الواضحُ المستفادُ هو ضرورةُ الانطلاق من مسار المصالحة الوطنيّةِ الشاملة، والاتّفاق على القيم والمبادئ التي تحكم الدولةَ الجديدة، دون أي إقصاءٍ أو استبعادٍ مهما كانت مبرّراته؛ إذا تمّ القيامُ بذلك يمكن لليبيا أن تقدّم نموذجًا ناجحًا للربيع العربي تسندها عواملُ التجانس والوحدة والموارد الوفيرة لتحقيق النمو والديمقراطيّة. إنّ أولى اشتراطات ذلك هو أن تعمل السلطاتُ المؤقّتةُ وتتكاتف النخبُ الوطنيّةُ لتجاوز المقاربات التقسيميّة، لوقف هدر كلّ الموارد الوطنيّة الماديّة والمعنويّة، وأن تخلق الفرصةَ السياسيّة التي يمكن كسبُها فيما لو كرّس الجهد للقيام بعملٍ وطنيٍّ داخليٍّ في مقدمته المصالحةُ الوطنيّةُ الشاملةُ والاتّفاقُ على المبادئ الأساسيّة للدستور الدائم؛ تمهيدًا لعقدٍ اجتماعيٍّ جديد.
نٌشر في العدد الـ30 من مجلة الهدف الرقمية